فهد داود الصباح
في كتابه "النظام العالمي" يطرح هنري كيسنجر نظرية جديدة، وهي اليوم بعد تسع سنوات على صدور الكتاب تؤكد الاحداث صحتها، ومن الاسئلة: هل ستنتهي الأزمة الاقتصادية إلى أشكال تعاون جديدة، أم أنها سوف تحيي الصراعات الناتجة عن النزعة الحمائية؟
هل تساهم التكنولوجيا الجديدة في محاسبة المواطنين للقادة أم يتوسلها الديكتاتوريون في ملاحقة معارضيهم؟ هل تساهم القوى الناشئة، على غرار الصين والبرازيل والهند، في حل المشكلات الدولية أم تنفخ في نار الاضطراب؟ هل يشد الترابط المتعاظم بين دول العالم لحمة التضامن أم يُضحِي مصدرًا لصراعات جديدة؟
صحيح ان الاسئلة بعضها يتعلق بالسياسة الطارئة التي تكون ردة فعل على حدث ما، لكنها في جوهرها تقدم صورة مغايرة لما درج عليه العالم فيما بعد اتفاقية يالطا، وقيام النظام العالمي على اساس التناقض بين رؤية الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ويرى ان العلاقات مع الصين التي ارساها في العام 1972، على قاعجة التعاون الاقتصادي، انما هي اساس المستقبل.
من هنا، اليوم لم يعد الصراع سياسيا، وليس على السيطرة على الموارد عبر القوة العسكرية، انما هناك شكل اخر تبلور في العقود الاربعة الماضية، ويوم يرسخ نفسه في نسج العلاقات بين الدول، بعيدا عن التناقضات الدينية او القومية، وحتى الوطنية، فالحدود في النظام الحالي ليست هي المهمة، ولا السيادة الوطنية، انما القوة التي تصنعها مجموعة من الشركات المتعددة الجنسيات.
حين تستحوذ شركتان على نحو 17 تريليون دولار، وتملك احدهما، اي شركة "فانغنرد" ما يزيد عن 3400 علامة تجارية، فهما تصنعان ساسية بعض الدول، فعلى صعيد المثال، ان الصين الشريك الرئيسي لشركة "بلاك رود" الاميركية، وبالتالي فان النزعات السياسية بين واشنطن وبكين خارج هذا الاطار، لهذا فان الصراع بين الاثنين انما يقوم على مبدأ انتزاع الحصص عبر الشركات المتصارعة.
في هذا الامر ثمة قطبة مخفية، وهي ان الصراع على الموارد في الشرق الاوسط، مثلا، وكذلك افريقيا لا يزال يدور من خلال التقاليد القديمة السياسية والعسكرية، لكن ثمة سؤال يطرح في هذا الجائب وهو: لماذا كانت الولايات المتحدة المناصر الاول لاعلان الحكم الذاتي في كردستان؟
الاجابة تحدثت عنها احدى رسائل الدكتوراه في الولايات المتحدة منذ العام 2007، وهي السعي الى جعل الاقتصادات صغيرة، لان فيها يزيد الانتاج من جهة، ويسهل السيطرة على ادواته، ولهذا كتب ريتشارد روزكرانس في كتابه " توسع بلا غزو.. دور الدولة الافتراضية فى الامتداد للخارج"، ان الدولة اليوم اصبحت "افتراضية" حيث تقل أهمية الأرض وتحضر السلع ورأس المال الذي اول ما يتجه الى التعليم للسيطرة عليه، وحيث لا تتصارع البلدان المتقدمة على الهيمنة السياسية، إنما على نصيب أكبر من الناتج العالمي، اعتمادًا على التخصص في الإبداع والخدمات، وليس على الانتاج المادي.
اليوم هناك رؤية مختلفة عن العلاقات بين القوميات والدول، تقوم على مبدا "دعه يمر دعه يعمل"، والدول الناجحة هي من تسعى فتح ابوابها مع الدول الاخرى، ولا تقيم اي اعتبار لنزاعات موروثة عن حقبات سابقة لم تكن فيها طرفا، ومن هذا اصبح المفهوم اليوم ان هناك دول "رأس" التي تبتدع في المنتجات والخدمات، ودول "جسم" التي تصنع المنتجات في شراكة جديدة مع الدول "الرأس" أو "الافتراضية"، وحين تسعى الى ان تكون عضوا في الجسد فانت تنفذ ما يملى عليك، لكن حين تكون انت الرأس فانت تملي على الاخرين قرارك.
الكثير من الدول العربية تملك المقومات كي تكون رأسا وليس جسدا، لكنها الى اليوم تدور في الماضي، لو تخطو خطوة نحو المستقبل.